(2) المرحلة الثانية
نتيجة التفريغ الكهربائي للبرق ونتيجة للأشعة فوق البنفسجية والجزئيات ذات الطاقة العالية المنهمرة من الفضاء الخارجي على هذا الغلاف الجوي تحولت الأرض إلى المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي تكونت فيها جزئيات عضوية كجزئيات السكر والأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات. وبعد ملايين السنين تكونت جزئيات البروتينات والأحماض النووية (مثل DNA).
وقد تمكن العالم ستانلي ميلر Stanley Miller عام 1953 أن يبرهن بأن الغازات الموجودة فى محيطنا يمكنها أن تتحول إلى عدد كبير من الجزئيات العضوية من خلال استخدام جهاز سمي بالمحبس أو المصيدة Trap (الشكل 1-4) الذي يتألف من وعاء زجاجي كروي مرتبط بقطبين لتوليد شرارة كهربائية من جهة، وفى الجهة الأخرى فأنه يرتبط بمكثف إذ أجري عدة تجارب على هذا الجهاز وكالأتي:
أ- جمع ميلر مزيجاً من غازات الميثان والأمونيا والماء والهيدروجين ووضعه داخل الوعاء في نظام معزول وعرضه إلى شرارة كهربية عند درجة حرارة 80 درجة مئوية ولمدة أسبوع، وبعد ذلك حلل المواد الناتجة من التفاعل وتبين إنها تتكون من أحماض أمينية ومركبات عضوية أخري(مثل حامض الخليك وحامض السكسنيك وحامض الفورميك وحامض اللاكتيك واليوريا).
ب- جمع ميلر أيضا في جهازه مزيجاً يحتوي على غاز النيتروجين والهيدروجين وأول أكسيد الكربون ووضعه فى داخل الوعاء (في نفس الظروف السابقة من نظام معزول وعرضه إلى شرارة كهربية عند درجة حرارة 80 درجة مئوية ولمدة أسبوع). نتج من ذلك أحماض أمينية (مثل الكلايسين Glycine والأنين Alanine وحامض الكلوتاميك Glutamic acid والليوسن Leucine) ومركبات عضوية أخري مختلفة عن تجربته الأولي.
(3) المرحلة الثالثة
في هذه المرحلة اتحدت الجزئيات التى تشكلت فى المرحلة الثانية، وكونت مواداً هلامية تدعى Coacervates أو Micro spheres وافترضوا أن هذه المواد كانت لها قابلية جذب جزئيات أصغر منها لتشكل معاً بنى يمكن تسميتها الخلايا البدائية Proto-cells.
(4) المرحلة الرابعة
في هذه المرحلة ظهرت الخلية الحية الأولى نتيجة امتصاص الخلية البدائية الجزئيات الملائمة للقيام بوظيفة إعادة الإنتاج ذاتياً Self -reproduction وعاشت هذه الخلايا الحية الأولية فى البداية على الجزئيات التى كانت موجودة فى المرحلة السابقة، ولكنها سرعان ما تطورت إلى خلايا تستطيع تصنيع الغذاء بالتمثيل الضوئي Photosynthetic cell. وقامت هذه الخلايا بطرح غاز الأكسجين إلى الجو وهذا الغاز تحتاج إليه جميع الكائنات الحية تقريباً على سطح الأرض. وقام غاز الأكسجين بتحطيم وتدمير جميع الخلايا البدائية والأولية التى تكونت فى المرحلة السابقة. أي ما أن ظهرت الحياة مارةً بهذه الطريقة حتى أقفل الباب أمام ظهور الحياة بالطريقة ذاتها مرة أخرى، وذلك بسبب وجود غاز الأكسجين . هذه هي قصة ظهور الحياة.
الاعتراضات على تجربة ميلر
أن الأوساط العلمية قبل خمسين سنة كانت تقبل فكرة الجو الاختزالي (أي الجو الحاوي على غازات مختزله كالأمونيا والميثان). ولكن فى عهدنا المبكر نرى أن بعض العلماء عارضوا هذا الرأي وقالوا أن تجربة ميلر لا تبرهن بشكل قطعي على شئ واستندوا في هذا إلى الأسباب الآتية :
أ- إن عدد الأحماض الأمينية الناتجة من هذه التجربة عدد قليل جداً لا يكفي أبدا لتشكيل وتكوين الخلية الحية الأولي، إذ يجب توفر جميع الأحماض الأمينية اللازمة لتكوين الخلية الحية وهي أضعاف هذا العدد.
ب- إضافة إلى توفر العدد والنوعية الضرورية للأحماض الأمينية يجب توفر مركبات ضرورية أخرى لا يمكن الاستغناء عنها مثل السكر والبيورينات… الخ، بينما لا تتكون ولا تظهر هذه المركبات الضرورية بوصفها نواتج في هذه التجربة.
ج- استعان ميلر للحصول على هذه النواتج فى تجربته (المحبس أو المصيدة) في أسفل جهازه لتجميع نواتج التفاعلات وهذا الجزء من الجهاز جزء حيوي جداً لأنه يحفظ هذه النواتج من عمليات التحلل بوساطة مصدر الطاقة، أي بوساطة الشرارة الكهربية. وإن هذه الطاقة التى كونت هذه النواتج والمركبات تقوم أيضاً بتحليل وتدمير هذه المركبات بعد مدة. إن هذا المحبس هو الذي يحفظ هذه المركبات من التحلل مرة ثانية. ولكن لا يوجد فى الطبيعة من يقوم بمثل هذه المهمة. أي أن هذه المركبات لا تجد فرصة فى الطبيعة لكي تتراكم وتتجمع للخطوة الثانية من التطور حتى تحمي نفسها من تأثير الطاقة التي تكونت منها.
د- الاعتراض الأخير هو أنه بجانب تكوين مركبات مفيدة (كالأحماض الأمينية) وضرورية للحياة تتكون وتنتج مواد أخرى قاتلة وهادمة للحياة.
تجربة العالم سيدني فوكس Sidney Fox
بعد سنوات استطاع العالم سيدني فوكس الحصول على جزئيات شبيهة بالبروتينات من تسخين حمض أميني نقي وجاف إلى درجة حرارة (150 -180) م لمدة (4-6) ساعات، لأنه كان يرى احتمالية وقوع مثل هذا التفاعل بالقرب من حافات البراكين. ثم أذاب ما حصل علية في ماء ساخن وترك المحلول ليبرد فلاحظ تكون كريات صغيرة Micro spheres من جزئيات شبيهة بالبروتينات. وبدأ أن هذه الكريات الصغيرة لها قابلية النمو والتبرعم، مما شجع فوكس على الاعتقاد بأنه ربما عثر على الطريقة التى تشكلت بها الخلية الحية الأولي. ولكن العالمان لسلى وأوركل Leslie and Orgel اعترضا على تجربة فوكس إذ صرحا بما يأتي : إن كانت هناك أماكن مساعدة لتشكل مثل هذه الجزئيات تبقى هناك مع هذا ضرورة لإيضاح وبيان كيف جُلبت الأحماض الأمينية إلى قرب الحمم البركانية، وكيف نُقلت الجزئيات من هناك بشكل كفوء فضلاً عن كون الحرارة العالية المستخدمة فى التجربة يمكن أن تقضي على العديد من الأحماض الأمينية مثل السيرين Serine والثيرونين Theronine.
أن نظم الحياة نظم دقيقة ومعقدة جداً وتعتمد على جزئيات معقدة التركيب تدعي الإنزيمات (وهي جزئيات كبيرة من البروتينات متكونة من سلاسل معقدة من الأحماض الأمينية ذات أشكال مختلفة) ولكل إنزيم تفاعل خاص وقد تجتمع وتشترك عدة أنزيمات على التتابع لإكمال أحدي العمليات الحيوية، فهل تستطيع المصادفات العمياء والعمليات العشوائية تكوين مثل هذه الجزئيات البروتينية الكبيرة والمعقدة الخاصة؟ لقد قام العلماء بحساب نسبة وجود مثل هذا الاحتمال باستخدام قوانين الاحتمالات Probability فأظهر هذا الحساب أن الكون ليس كافياً لا من ناحية الحجم ولا من ناحية الزمن لتكوين جزئية واحدة من البروتين عن طريق المصادفات العشوائية ، أي لو كان كله مملوءاً بالعناصر المكونة لجزئية البروتين (وهي النيتروجين والهيدروجين والأوكسجين والكربون) ولم يكن هناك أي عنصر آخر (علماً بأن عدد العناصر المكتشفة حتى الآن تجاوز المائة) وحدثت تفاعلات عشوائية بين هذه العناصر بسرعة خيالية (مثلاً مليون تفاعل فى الثانية الواحدة) لما كان عمر الكون (المقدر بـ 15-20 مليار سنة) ولا حجمه كافيين لتكوين جزئية واحدة من البروتين.
فمثلاً عند أخذ أبسط واصغر خلية بكتيريا خلية القولون E. coli لوجدنا أنها تحتوي على ما يقارب 5000 نوعاً مختلفاً من المركبات العضوية، ويدخل ضمن هذا العدد تقريباً 3000 نوع مختلف من البروتينات و1000 نوع مختلف من الأحماض النووية. وفي الإنسان يوجد حوالي خمسة ملايين نوع مختلف من البروتينات . ومن الجدير بالذكر إن جزئيات البروتين في بكتيريا القولون لا تشابه جزئيات البروتين فى الإنسان، على الرغم من ا بعضهم فى كلا الكائنين يعمل بطرق متشابهة أو لهم وظائف متشابهة. ويقدر عدد أنواع الكائنات الحية الموجودة فى الكون ب 1200000 نوع، تختلف درجة تعقيدها من البكتريا إلى الإنسان، وبناءاً على ذلك قدر بأنه يوجد 1010 – 1012 نوعاً مختلفاً من جزئيات البروتين وحوالي 1010 نوعاً مختلفاً من الأحماض النووية.
فمن غير المعقول أن يقوم المختصون بالكيمياء الحياتية بعزل والتعرف على كل الأنواع المختلفة من الجزئيات العضوية المعقدة؟ وكيف تكونت في بدء نشوء الحياة؟ وكيف تنظمت بشكل أعطي لكل خلية حية في كل كائن حي هذا الترتيب المنظم الدقيق جداً؟ وفي النهاية يجب الرجوع والإنابة إلى الله وحده القادر على كل شئ والخالق لكل شئ هو المصور والقادر.
المراجع : الفرضيات التى قدمها الباحثون حول نشوء الحياة – الفصل الأول ( الكيمياء الحياتية والفرضيات حول نشوء الحياة) من كتاب ( الكيمياء الحياتية – الجزء الأول ) للمؤلفين أ.د/ طارق يونس أحمد ، أ.د/ لؤي عبد علي هلالي – جامعة الموصل – العراق.